بدأ الدولار الأمريكي العام الجديد على قدم قوية للغاية، حيث تجاوز مؤشر الدولار الأمريكي مستوى 109 نقطة مسجلًا أعلى مستوى له منذ نوفمبر 2022، كما أنه أغلق عام 2024 محققًا ارتفاع بنحو 7% لثالث عام على التوالي.
بالنظر إلى المستقبل، يتوقع العديد من المحللين المزيد من المكاسب للدولار الأمريكي حيث يجبر الاقتصاد القوي البنك الاحتياطي الفيدرالي على الإبحار في دورة تخفيف أضحل خلال عام 2025.
لقد شهد الدولار الأمريكي زخماً قوياً منذ منتصف أغسطس في سوق تداول العملات بعد أن احتفظ بدعم حاسم عند 100 نقطة، ولم تتزايد المشاعر الصعودية في السوق إلا منذ الانتخابات الأمريكية في نوفمبر وفوز دونالد ترامب فيها، حيث تعمل سياسات “أميركا أولاً” التي ينتهجها ترامب على دفع التوقعات بانتعاش قطاع التصنيع الأمريكي، الأمر الذي يدعم النمو الاقتصادي بشكل أكبر.
في الوقت نفسه، من المتوقع أن تؤدي سياسات ترامب أيضًا إلى دفع الضغوط التضخمية، مما يجبر البنك الاحتياطي الفيدرالي على إبطاء دورة التيسير، في اجتماعه الأخير للسياسة النقدية في عام 2024، أشار البنك المركزي الأمريكي إلى أنه يتوقع خفض أسعار الفائدة مرتين فقط هذا العام، في حين توقع البنك الاحتياطي الفيدرالي في شهر سبتمبر أربع تخفيضات في أسعار الفائدة في عام 2025.
في حين من المتوقع أن يبطئ البنك الاحتياطي الفيدرالي دورة التيسير، لا يمكن قول الشيء نفسه عن البنوك المركزية الأخرى، يتوقع المحللون تباعدًا جديدًا في السياسة النقدية العالمية من شأنه أيضًا دعم الدولار، كما يتوقع المحللون أن يخفف البنك المركزي الأوروبي أسعار الفائدة لدعم اقتصاد المنطقة مع استمرار تراجع ضغوط التضخم، ويعد أكبر مكون في مؤشر الدولار الأمريكي هو اليورو.
لقد صمد الاقتصاد الأمريكي في وجه الصدمات التي لحقت به خلال السنوات القليلة الماضية بشكل أفضل كثيراً من نظرائه، وبالتالي فإن البنك الاحتياطي الفيدرالي في وضع يسمح له بالإبقاء على أسعار الفائدة أعلى من أي مكان آخر.
ومع ذلك، ليس كل المحللين متفائلين بأن الدولار الأمريكي يمكن أن يحافظ على وتيرته الحالية، يتوقع محللو العملات في بنك أوف أمريكا زخمًا قويًا للدولار الأمريكي في النصف الأول من العام، لكن النمو الاقتصادي الأبطأ قد يؤثر في النهاية.
وقال المحللون في تقرير توقعاتهم لعام 2025: نتوقع أن يظل الدولار الأمريكي قويًا في الأمد القريب، بدعم من سياسات التضخم والتعريفات الجمركية الأمريكية، ولكن سيضعف في وقت لاحق من العام حيث تضغط هذه السياسات على الاقتصاد الأمريكي بينما يتكيف بقية العالم.
وبرغم ذلك يمكن أن تلعب الاستثنائية الأمريكية دوراً رئيسياً في قوة الدولار الأميركي في العام الجديد، كما أن تصورات الاقتصاد الأمريكي المرن مبنية على أساس متين.
قوة الدولار والعجز المزدوج
يندهش خبراء السوق من قوة الدولار عند النظر إلي حجم العجز الكبير المزدوج، حيث سجل ميزان المدفوعات عجزًا بنسبة 3.6% من اجمالي الناتج المحلى الأمريكى وبلغ الدين العام نحو 6.2% من اجمالي الناتج المحلى الذى بدأ في الظهور بقوة، يريد الرئيس الأمريكي الجديد “دونالد ترامب” أن يعالج هذه الاختلالات عن طريق التعريفات التجارية وما يسمى بإدارة كفاءة الحكومة (DOGE).
وعلى الرغم من هذه العجزات، فقد “اشترت” السوق فى الغالب قوة الدولار، حيث ارتفعت المشاعر لصالح الدولار، قد ينبع هذا التفاؤل من عدة مصادر، بما في ذلك التوقعات التضخمية المحتملة المرتبطة بـ “اقتصاديات ترامب” والفارق في أسعار الفائدة والزخم الاقتصادي الكلي القوي.
لا بديل للعملة الورقية
ومع ذلك، ربما كان السبب الرئيسي الذي يقف خلف قوة العملة الأمريكية هو عدم اتاحة عملة بديلة، لهذا يبقي الدولار العملة الرئيسية الاحتياطية فى العالم للعديد من الأسباب: أهمها أن اليورو يفقد زخمه كبديل، خاصة في ظل حالة عدم الاستقرار السياسى والاقتصادى الحالي فى أكبر دول منطقة اليورو (ألمانيا وفرنسا)، كما أن الاقتصاد الصيني لم يجد حتي الآن نموذجه الاقتصادى الجديد ليحل مشاكل ديونه.
وقد هدد ترامب مؤخرًا مجموعة البريكس بفرض عقوبات صارمة إذا أنشأت عملة جديدة أو دعمت عملة لتحل محل الدولار الأمريكي.
في الوقت الحالي، هناك ثقة في السوق، وإذا كانت سياسات ترامب الاقتصادية في الوقت المناسب فقد تصمد قوة الدولار، ومع ذلك، إذا نشأت الشكوك وظل العجز والاختلالات دون رادع، فقد يتطلع السوق إلى بدائل غير ورقية مثل الذهب والبيتكوين.
التعريفات الجمركية ستعمل على توسيع فروق سعر الفائدة
تشير التصريحات الأخيرة للرئيس الأمريكى الجديد “دونالد ترامب” إلي أن القيود التجارية سيتم تنفيذها فى وقت قريب عما كان متوقع، فى الوقت الحالى، يحافظ مسؤولي السياسات فى الولايات المتحدة على وجهة نظرهم القائلة بأن التعريفات الجمركية سيكون لها تأثير علي التضخم مرة واحدة، لهذا من الضروري أن تستمر تخفيف السياسة النقدية بوتيرة تدريجية، ولكن التداعيات الاقتصادية ستكون أكثر وضوحًا علي شركاء الولايات المتحدة وخاصة فى أوروبا وآسيا، وذلك لاعتمادهم الكبير علي الصادرات كجزء من اجمالي الناتج المحلي.
قد يؤدى التراجع الكبير فى الطلب علي الصادرات الناتج عن التعريفات الجمركية إلي زيادة مخاطر التباطؤ الاقتصادى فى هذه الدول، مما قد يؤدى إلي حدوث دورة تخفيف نقدية أكثر عدوانية عند المقارنة بالولايات المتحدة، وبالتالي هذا سيعمل على اتساع فروق سعر الفائدة التي ستكون بمثابة داعم قوي لدفع مزيد من الطلب علي الدولار الأمريكى، في الآونة الأخيرة، شهدت منطقة اليورو مجموعة مخيبة للآمال من قراءات مؤشر مديري المشتريات (PMI) مما دفع الأسواق إلى التوقع بخفض أكبر لأسعار الفائدة الأوروبية بمقدار 50 نقطة أساس في يناير 2025 لإعطاء الأولوية للنمو.
الاقبال على الملاذ الآمن فى أوقات عدم اليقين
يتوقع الخبراء أن يتميز عام 2025 بعدم اليقين تجاه العلاقات الجيوسياسية، في يوليو 2018 نشأت حرب تجارية بين الولايات المتحدة والصين مما أدي إلى ارتفاع الدولار فى الأشهر التى تلت ذلك، ولكن في هذه المرة الأسواق حاليًا مستعدة للتعريفات الجمركية القادمة، وفي الوقت نفسه، من الممكن أن تحدث مزيد من المفاجآت، فمن المتوقع أن يتبع هذا رد فعل انتقامى، وبشكل عام، ستسوء الأوضاع بالنسبة للعلاقات الجيوسياسية.
كيف كان أداء الدولار الأمريكي أمام العملات الأخري في 2024؟
ارتفع الدولار الأمريكي بشكل كبير منذ بداية شهر أكتوبر مسجلاً مكاسب مقابل جميع العملات الرئيسية من الدول المتقدمة والناشئة، ومع استمرار العديد من المؤشرات في التأكيد على قوة الاقتصاد الأمريكي، هناك شكوك متزايدة حول ما إذا كان البنك الاحتياطي الفيدرالي سيكون قادرًا على المضي قدمًا في تخفيضات أسعار الفائدة المتعددة خلال الأرباع المقبلة، بالفعل، أعطى اتساع فروق العائد بين سندات الخزانة الأمريكية والعديد من السندات السيادية الأخرى الدولار ميزة.
كما أدى فوز “دونالد ترامب” في الانتخابات إلى تغذية تقدم الدولار الأمريكي، حيث يمكن للعديد من سياساته المقترحة أن تؤدي إلى زيادة ضغوط التضخم، مما قد يعيق قدرة بنك الاحتياطي الفيدرالي على خفض أسعار الفائدة.
بالإضافة إلى ذلك، فإن عودة ترامب إلى البيت الأبيض تؤدي إلى تفاقم حالة عدم اليقين العالمية على الجبهتين الجيوسياسية والاقتصادية، أحد أكبر التهديدات للعديد من الاقتصادات هو إدخال التعريفات الجمركية، فمن شأن زيادة الحمائية الأمريكية أن تخنق النمو الاقتصادي في جميع أنحاء العالم، مع تعرض الصين للخطر بشكل خاص، خلال الحملة الانتخابية هدد ترامب بفرض ضريبة بنسبة 60% على الواردات الصينية، وهذا من شأنه أن يعقد الوضع الاقتصادي الصعب بالفعل في الصين ويضر باليوان الذي يتم تداوله حاليًا عند حوالي 7.25 يوان / دولار أمريكي.
كما تعاني العديد من الدول الأخرى من اقتصادات هشة بما في ذلك العديد من الدول الأوروبية، لكن الجانب الإيجابي هو أن التضخم كان في انخفاض، ومن المتوقع الآن أن يقوم البنك المركزي الأوروبي بإجراء عدة تخفيضات في أسعار الفائدة خلال الأرباع القادمة، هذه التوقعات تضعف من أداء اليورو الذي اقترب مؤخرًا من 1.05 دولار.
كان التقدم في التضخم قادمًا منذ فترة طويلة في المملكة المتحدة، لكن الأرقام في الأشهر الأخيرة كانت مشجعة، في حين لا يزال التقدم مدفوعًا إلى حد كبير بانخفاض أسعار الطاقة فإن نمو الأسعار يتباطأ أيضًا في مكونات أخرى، حافظ بنك إنجلترا على موقفه الحذر في أكتوبر، رافضًا مرة أخرى تمهيد الطريق لخفض أسعار الفائدة المتتالية، انخفض الجنيه الإسترليني الذي تجاوز 1.34 دولار في سبتمبر الآن إلى ما دون 1.27 دولار.
كما أن الأوقات صعبة بالنسبة للعملات المرتبطة بالسلع الأساسية. حيث تثقل المخاطر الاقتصادية المتزايدة في السنوات القادمة على أسعار السلع الأساسية، بالإضافة إلى ذلك، قد يرتفع إنتاج النفط والغاز الطبيعي والفحم في الولايات المتحدة في ظل سياسات ترامب، مما يحد من زيادات أسعار هذه المنتجات، انخفض الدولار الكندي بنحو 4.0% منذ بداية أكتوبر وخسر الدولار الأسترالي أكثر قليلاً، على الرغم من أن البنك الاحتياطي الأسترالي لم يبدأ بعد دورة خفض أسعار الفائدة، وتثبت المخاوف بشأن الاقتصاد الصيني أنها ضارة بشكل خاص بالعملة الأسترالية.
في حين كان أداء الدولار الكندي أفضل إلى حد ما من العملات الأخرى المرتبطة بالسلع الأساسية، إلا أن قيمته لا تزال هزيلة عند 1.40 دولار أمريكي / دولار كندي (أكثر بقليل من 0.7 دولار أمريكي)، انخفض الدولار الكندي إلى ما دون أدنى مستوياته في السنوات الأخيرة وبلغ المستويات المسجلة في ربيع عام 2020 عندما كانت الموجة الأولى من جائحة كوفيد 19 على قدم وساق، ونظراً لمدى اعتماد كندا على السوق الأمريكية فقد تكون واحدة من الضحايا الرئيسية للحمائية الأمريكية، كما أن كندا توجه رياحا اقتصادية معاكسة أخرى مثل جدار تجديد الرهن العقاري والانحدار الكبير المحتمل في النمو الديموغرافي إذا تمكنت الحكومة الفيدرالية من الحد من الهجرة كما هو مخطط له، وعلى الجانب المشرق، يبدو أن التضخم أصبح الآن تحت السيطرة بشكل أفضل، مما يعني أنه يمكننا توقع المزيد من تخفيضات أسعار الفائدة الرئيسية، بطبيعة الحال، فإن اتساع فروق أسعار الفائدة بين كندا والولايات المتحدة يشكل خبرا سيئا بالنسبة للدولار الكندي.
في الختام:
تعتمد قدرة الدولار على الحفاظ على اتجاهه الصعودي في عام 2025 ودفع مؤشر الدولار للوصول إلى مستويات مرتفعة جديدة على عدة عوامل، بما في ذلك:
– الثقة في سياسات التحكم في الإنفاق العام التي تنتهجها وزارة الخزانة الأمريكية والنتائج التي تولدها.
– التضخم الناتج عن تخفيضات الضرائب وسياسات التعريفات الجمركية التي تنتهجها إدارة ترامب.
– رد البنك الاحتياطي الفيدرالي على ارتفاعات التضخم المحتملة.